رحلة البحث عن الحقيقة: حوار بين العقل والإيمان

اقتربتُ منه في سكون الليل، وكان وجهه يشع بنور لا أدرك مصدره، وكأن الحقيقة نفسها قد تجسدت أمامي. ترددتُ قليلًا قبل أن أسأله، لكنني كنتُ محمَّلًا بأسئلة طالما أقلقتني، أسئلة تدور في فضاء الفهم البشري المحدود، تحاول أن تمسك ما هو غير محدود. نظرتُ في عينيه العميقتين، وكأنني أبحث فيهما عن الأجوبة، ثم قلتُ:

“سيدي، عبر العصور، وقف الناس أمامك موقفين: منهم من يرفعون راية الإيمان دون أن يفهموا، ومنهم من ينكرون كل ما لا تدركه عقولهم. البعض يقسم طبيعتك، والبعض يخلطهما، وآخرون ينكرونها تمامًا. أما أنا، فأبحث عن الحقيقة: كيف يمكن لعقل محدود أن يدرك سرًّا غير محدود؟ كيف نعرف الحق؟”

نظر إليَّ بحنان وقال: “أتبحث عن فهم أم عن يقين؟”

أجبته مترددًا: “ألا يتطلب اليقين فهمًا؟”

ابتسم وقال: “أنت تطلب الفهم بمنطقك، والمنطق أداة، لكنه ليس الحقيقة ذاتها. كمن يمسك مصباحًا في ظلام دامس، يظن أنه يرى كل شيء، لكنه لا يدرك أن الضوء نفسه محدود.”

قلتُ: “لكن العقل أداة البحث عن الحق، أليس كذلك؟”

أجاب: “بل هو الطريق الذي يسير بك نحو الحق، لكنه ليس الحق ذاته. حين كنتُ بينكم، رأى البعض أعمالي ولم يؤمنوا، ورأى آخرون نفس الأعمال وقالوا: هذا هو ابن الله الحي! لم يكن الفارق في ما رأوا، بل في قلوبهم التي استنارت بالإعلان.”

“طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله.” – متى 5: 8

أحسستُ كأن روحي تنفتح على أبعاد جديدة، لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي من سؤال آخر: “إذن، ما دور البحث العقلي في الإيمان؟”

قال: “العقل خادم للإعلان، وليس سيدًا عليه. كما أن العين ترى الشمس، لكنها لا تخلق نورها، كذلك العقل يستطيع أن يدرك آثار الحقيقة، لكنه لا يمكن أن يوجدها من العدم. من يقترب من النور يرى، ومن يشيح بوجهه عنه يبقى في الظلمة، مهما كان منطقه قويًا.”

قلت: “إذن كيف نعرف أنك أنت الحق؟”

ابتسم، وفي عينيه دعوة خفية، وقال: “تعالَ وانظر.”

كان في كلماته قوة لا تحتاج إلى برهان عقلي، بل إلى استعداد داخلي للرؤية. شعرتُ كأن أبواب الإدراك تفتح أمامي، كأنني كنت أبحث في الكتب والمناظرات عن شيء لا يُمسك إلا بالقلب. كنتُ أظن أن الوصول إلى الحقيقة مسألة استدلال عقلي محض، لكنني أدركتُ أنه إعلان يُستقبل بكيان الإنسان كله.

قلتُ له: “لكن يا سيد، ماذا عن أولئك الذين يطلبون الأدلة؟ ألا يجب أن نعطيهم برهانًا؟”

قال: “أعطهم البرهان، لكن لا تظن أن البرهان وحده سيجعلهم يؤمنون. من يطلب الدليل بعقل مفتوح سيجده، ومن يطلبه بقلب مغلق، لن تكفيه كل الأدلة. تذكَّر أن كثيرين رأوا العجائب، لكنهم لم يؤمنوا، لأن الإيمان ليس مجرد قناعة عقلية، بل قبول للحق حين يُعلن ذاته.”

“الإيمان هو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى.” – عبرانيين 11: 1

قلتُ: “إذن، هل كل جدل لاهوتي عقيم؟”

أجاب: “ليس الجدال هو المشكلة، بل القلب الذي يجادل. إن كان طلب الحقيقة هو دافعك، فجدالك سيكون بحثًا، وإن كان دافعك إثبات ذاتك، فجدالك سيصبح صراعًا. من يجادل ليس للحق، بل للانتصار، لن يصل إلى شيء. لكن من يبحث بتواضع، سيُمنح نورًا فوق نور.”

نظرتُ إلى السماء، وشعرتُ أنني قد بدأت أفهم. ليس لأنني وجدتُ إجابات نهائية لكل أسئلتي، ولكن لأنني أدركتُ أن الحقيقة ليست مسألة تفكيك وتحليل فقط، بل لقاء مع شخص الحق ذاته. الإيمان ليس ضد العقل، لكنه يتجاوزه، كما أن الأفق لا يُنكر الأرض، لكنه يمتدُّ إلى ما بعدها.

قلتُ: “يا سيد، كيف أُعلِّم الآخرين هذا؟”

قال: “عشْهُ أولًا. من يختبر النور، يستطيع أن يقوده إليه. لا تكن كالأعمى الذي يحاول أن يشرح الألوان، بل كن من يبصر، ويدعو الآخرين إلى النظر. الحق يُدرَك عندما يُعاش، وليس عندما يُناقَش فقط.”

حين قال ذلك، شعرتُ أنني لستُ بحاجة إلى المزيد من الكلمات، بل إلى أن أسير في هذا الطريق، أن أكون شاهدًا، لا مجرد متحدث. ساد الصمت، لكنه لم يكن صمت الحيرة، بل صمت الامتلاء.

لم يكن هذا اللقاء مجرد حوار فكري، بل كان نقطة تحول. أدركتُ أن السؤال عن الحق ليس رحلة فكرية فقط، بل هو لقاء مع من قال: “أنا هو الطريق والحق والحياة.” – يوحنا 14: 6