لماذا نبحث عن الجنة

لماذا نبحث عن الجنة

   في مناظرة أُقيمت عام 1994 في جامعة ستانفورد حول نظرية الداروينية، قام العالم التطوري ويليام بروفين، الذي يُعرف بعدم إيمانه بوجود إله، بتلخيص آرائه بشأن علم الأحياء التطوري الحديث وتداعياته “الظاهرة”. وفقًا للدكتور بروفين:

 “لا توجد آلهة، ولا توجد غايات، ولا توجد قوى موجهة نحو هدف من أي نوع. ولا توجد حياة بعد الموت. وعندما أموت، سأكون على يقين تام من أنني سأموت. وهذه هي نهايتي. ولا يوجد أساس نهائي للأخلاق، ولا معنى نهائي للحياة.”[1]

النظرة الكونية/ الرؤية العالمية:

    من خلال المقدمة السابقة، أود أن أبدأ حديثي معك، عزيزي القارئ، حول أهمية الرؤية العالمية[2](Worldview) التي تتبناها، حيث إن هذه الرؤية ستلعب دورًا حاسمًا في تحديد إجابتك على السؤال الجوهري المتعلق بنهاية شكل الحياة، وكيف تتوقعها وتعيش بناءً عليها في الوقت الحاضر.

   تتعلق الأسئلة الجوهرية في الوجود -والتي لا يمكن تفكيكها في إطار تشكيل وجهة نظر شاملة أو سرد شامل للحياة- بمسائل عميقة مثل: ما هي البداية؟ ما هو المعنى؟ كيف تُعاش الحياة؟ وما هي نهاية الحياة؟ وبالتالي، فإن استفسارنا حول نهاية الحياة يتطلب استكشافًا عميقًا لمفهوم وأصل الحياة ذاتها.

   وفقًا للرؤية العالمية التي طرحها ويليام بروفين، يُعتبر أن البداية لا تتضمن وجود إله أو معنى محدد أو هدف واضح في هذه الحياة. وبالتالي، يُستنتج أنه لا يوجد وجود للحياة بعد الموت. يُشير بروفين إلى أن الإنسان ينشأ من العمليات الطبيعية، وينتهي وجوده عند لحظة وفاته، مما يعني أن حياته تفتقر إلى أي معنى أو غرض بعد هذه النقطة.

    ومع ذلك، دعني استعرض وجهة نظر عالمية أخرى تسعى للإجابة عن الأسئلة الوجودية الكُبرى المُتعلقة بالحياة، وذلك في محاولة للوصول إلى إجابة شاملة لهذا السؤال المعقد:

ما الذي يحدث بعد الموت، ولماذا نترقب الجنة أو السماء؟[3]

   كتب C.S. لويس:

“إذا وجدت في نفسي رغباتٍ لا يمكن لأي شيء في هذا العالم أن يُرضيها، فإن التفسير المنطقي الوحيد هو أنني خُلِقتُ لعالمٍ آخر.”[4]

هذا الاقتباس يعكس فكرة عميقة حول طبيعة الرغبات الإنسانية، حيث يشير إلى أن وجود رغبات غير قابلة للإشباع في العالم المادي، مما قد يدل على وجود بُعدٍ آخر أو عالمٍ مُغاير يتجاوز التجارب الحياتية اليومية. يُعتبر هذا المفهوم جزءًا من الفلسفة الوجودية التي تتناول الأسئلة المتعلقة بالمعنى والغاية من الحياة، ويعكس أيضًا التوجه الروحي الذي يربط بين الإنسان وما هو أبعد من الوجود المادي.

   من خلال تحليل هذه المقولة، يمكن أن نستنتج أن هناك دلالة على أن البداية قد تكون ناتجة عن وجود كيان أو عالم آخر، أو من شخص يتجاوز حدود واقعنا الحالي. يبدو أن وجودنا في هذا العالم مرتبط بأهداف تتجاوز نطاق التجربة الإنسانية المعاشة. إن شعورنا بعدم الاكتفاء وعدم الرضا في هذا العالم يشير إلى أن مسار حياتنا وقصتنا لا يقتصران على هذا الوجود، بل من المحتمل أن يستمرا في عالم آخر.

   عند تأملي في مقولة القديس أوغسطينوس:

 “يا الله، لقد خلقتنا لذاتك، وتظل قلوبنا مضطربة حتى تجد راحةً فيك”[5]

   أجد أن هذه العبارة تعكس عمق الفهم الوجودي للإنسان وعلاقته بالخالق. تشير المقولة إلى أن الإنسان، بطبيعته، يسعى إلى تحقيق حالة من السكون الداخلي والطمأنينة، والتي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الارتباط الروحي بالله. تعكس هذه الفكرة مفهومًا فلسفيًا عميقًا حول الغرض من الوجود الإنساني، حيث يُعتبر البحث عن الله بمثابة البحث عن المعنى والراحة النفسية.

لقد تم اكتشاف وجهة نظر عالمية تتعلق بوجودنا، ولكن بصورة أكثر وضوحًا، حيث يبدو أن هناك سببًا لخلقنا وإيجاد معنى للحياة. إن قلوبنا لن تجد الراحة حتى تلتقي بالله في نهاية المطاف، وجهًا لوجه. وكلما اقتربنا من تلك الصورة المثالية، نشعر بفيض من الراحة والطمأنينة، حتى نصل إلى اللقاء الأبدي، كما يُشير الكتاب المقدس إلى ذلك، حيث يُخبرنا أننا سنكون مع الله في كل حين (رؤيا 21: 3).

   عند تحليل الكلمات التي تُستخدم لتشكيل منظور ورؤية نهاية القصة وفقًا للفكر المسيحي، يتضح لي أنني لا أعتبر السماء مجرد مكان لنهاية قصتي، بل أرى في ذلك تعبيرًا أعمق: إنني أترقب أن أكون في حالة من القرب والوضوح مع الله، مما يعكس سموًا روحيًا يتجاوز المفهوم التقليدي للسماء كمكان.

    من خلال تحليلنا التاريخي، يتضح أن العديد من الثقافات قد طرحت إجابات على سؤال مصيري يتعلق بما ينتظر الإنسان بعد الموت. تتنوع هذه الأفكار بشكل كبير عبر الأديان والعصور، حيث سعت كل منها إلى تقديم تفسير لهذا اللغز الوجودي. إن جميع هذه المحاولات، في رأيي، تعكس رغبة إنسانية عميقة في فهم مصير الفرد بعد انتهاء رحلته على الأرض، وتظهر تطلعاته نحو تحقيق نهاية سعيدة لقصة حياته.

في تحليلنا للنصوص المقدسة، يتجلى منذ البداية مفهوم انتظار السماء والحياة الآخرة وما يلي الموت. لذا، لا تُعتبر السماء هي الإطار الحديث للسرد، بل تُعبر عن السؤال القديم الذي يتردد في أعماق الإنسان. تسرد النصوص المقدسة قصصًا لأشخاص عاشوا من أجل تلك اللحظة الحاسمة، وهي الوصول إلى هذا العالم الآخر.

    يمكن تلخيص حياة النبي إبراهيم، خليل الله، من خلال النصوص الواردة في رسالة العبرانيين، الإصحاح الحادي عشر، حيث يُبرز هذا الإصحاح إيمان إبراهيم العميق وثقته في الله. يُشير إلى كيفية استجابته لدعوة الله، وتركه لوطنه، وسعيه نحو الأرض الموعودة، بالإضافة إلى تجسيد إيمانه من خلال تقديم ابنه إسحاق كذبيحة. يُعتبر إبراهيم نموذجًا يُحتذى به في الإيمان والثقة في الوعود الإلهية، مما يجعله شخصية محورية في الكتاب المقدس.

“بِالإِيمانِ، تَغَرَّبَ إِبْراهِيمُ في أَرْضِ المَوْعِدِ، وكأنَّها غَرِيبَةٌ، مُقيمًا في خِيامٍ مع إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ، الوارِثينَ معهُ في هذا المَوْعِدِ عَيْنِهِ. إذ كانَ يَنتَظِرُ المَدِينَةَ التي لها الأَساساتُ، التي صَنَعَها وَبارَأَها اللّٰهُ.” (عب 11: 9).

خاتمة:  

  يجب علينا الاعتراف بأن هناك العديد من جوانب الغموض المتعلقة بالحديث عن الحياة الآخرة. إن معرفتنا حول تلك المرحلة النهائية التي سنصل إليها تظل محدودة، ولا توجد نصوص واضحة وصريحة تقدم تفاصيل كافية حول شكل ونوع وطبيعة الحياة في السماء، كما يُشار إليها.

لقد اعتمد بعض الأفراد على الروايات الشعبية أو بعض التفسيرات غير الدقيقة للنصوص الكتابية، مما يثير تساؤلات حول طبيعة التوقعات المرتبطة بهذه النصوص.

فما هي الأسس التي نستند إليها في تشكيل توقعاتنا، وما هي العوامل التي تدفعنا إلى انتظار نتائج معينة من هذه النصوص؟

المراجع

[1] Provine, W.B. and Phillip E. Johnson (1994), “Darwinism: Science or Naturalistic Philosophy?” Origins Research, 16, Fall/Winter.

[2] مصطلح يعبر عن صياغة للمعتقدات الأساسية المضمنة في قصة كبيرة مشتركة، متأصلة في إيمان، وتشكل وتوجه مجرى حياتنا الشخصية والعامة.

[3]  تختلف المصطلحات في الأديان عن الحياة في النعيم الأبدي، فيمكن أن تسمى الجنة، السماء، دار السلام، فردوس النعيم، ملكوت السموات، الغرة، العالم القادم، الفيد، النيرفانا، وغيرها من المصطلحات التي تعبر عن فكرة مكان النعيم الأبدي.

[4]  سي اس لويس، المسيحية المجردة، 133.

[5] Augustine, Confessions,1.

Leave a reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *