مقدمة

قد تكون هذه من المرات النادرة التي تقرأ فيها عن نظرية “دائرة القرود”، لذا سأشرح لك الموضوع ببساطة.

“موت شخص واحد مأساة، موت مليون شخص إحصائية.” جوزيف ستالين

هذه الكلمات التي قالها جوزيف ستالين تلخص قصة غريبة ومؤثرة، قصة “دائرة القرود” وعلاقتها بالحروب والقمع والجريمة والعنصرية والأنانية، والعديد من الأمور التي تحدث في حياتنا اليومية. كيف للقرود أن تكون لها علاقة بكل هذه القسوة والعشوائية التي نشهدها في العالم؟ هيا بنا ندخل عالم القرود، وسنجد أن لكل شيء معنى.

تخيل

تخيل قردًا صغيرًا يرتدي ملابس أطفال، لنسميه “بيبو”. تخيل أن بيبو هذا هو حيوانك الأليف، صديقك الذي تلعب معه، والذي تقضي معه الأوقات الصعبة والجميلة. تخيل شعورك إذا مات بيبو! إنه شعور صعب، أليس كذلك؟

الآن، تخيل أن لديك أربعة قرود أخرى: لولو وكيكو ونونو وتوتو. كل واحد منهم له شخصية مختلفة، واحد عدواني، وآخر حنون، وثالث هادئ، ورابع عشوائي يرمي أي شيء. ولكنهم جميعًا أصدقاؤك.

ثم تخيل أن لديك مئة قرد. يصبح الموضوع صعبًا الآن، أليس كذلك؟ حسنًا، كم عدد القرود الذي يجب أن تمتلكه حتى لا تتمكن من تذكر أسمائهم؟ متى تتحول حيواناتك الأليفة المحبوبة إلى بحر من القرود بلا ملامح؟ متى ستتوقف عن الاهتمام إذا مات أحدهم؟

هذا ليس سؤالًا بلاغيًا، فنحن نعرف الإجابة.

ما هي دائرة القرود؟

موضوع “دائرة القرود” مبني على فكرة تسمى “رقم دنبار”، والتي تنص على أن الإنسان قادر على تكوين علاقات قوية مع عدد محدود من الأشخاص فقط. وما هي “دائرة القرود”؟ هذا المصطلح ابتكره ديفيد وونغ، ويشير إلى المجموعة التي نستطيع التعاطف معها كبشر. بعبارة أخرى، نحن قادرون على الشعور بمشاكل عدد معين من الأشخاص فقط، وليس كل الناس في العالم.

القرود وأدمغتنا

اكتشف علماء القرود أمرًا غريبًا، وهو أن حجم دماغ القرد يحدد حجم المجموعة التي يعيش فيها. كلما كان الدماغ أكبر، كانت المجموعة أكبر.

قاموا بتشريح أدمغة العديد من القرود، واكتشفوا أنهم قادرون على أخذ دماغ يرونه لأول مرة، والتنبؤ بحجم القبيلة التي كان يعيش فيها صاحب هذا الدماغ.

تعيش معظم القرود في مجموعات تتكون من حوالي خمسين قردًا. ولكن كان هناك دماغ واحد أكبر قليلاً، وتوقعوا أن المجموعة المثالية لصاحب هذا الدماغ هي حوالي مئة وخمسين قردًا.

كان هذا الدماغ أقرب إلى دماغ الإنسان وأشبه به إلى حد ما. ومن هنا بدأ علماء آخرون بدراسة نظرية عالم القرود وتطبيقها على الإنسان، واكتشفوا بناءً على الدراسات التي أجروها، أن الإنسان قادر على التعامل مع مجموعة اجتماعية أكبر، حوالي 150 شخصًا تقريبًا.

كيف يؤثر ذلك على حياتنا؟

روى تيم روسيرت، الإعلامي الشهير، قصة عن والده، الذي كان يقضي نصف ساعة في تغليف أي كوب مكسور قبل أن يرميه في القمامة، لماذا؟ حتى “لا يجرح عامل القمامة يده”.

تصرف غريب، أليس كذلك؟ لا يقلق الكثير منا على سلامة عامل القمامة، على الرغم من أنه يقوم بعمل مهم. نحن لا نفكر فيه كإنسان، بل نفكر فيه كشيء يزيل القمامة.

لأنه غالبًا ما يكون عامل النظافة خارج دائرة القرود الخاصة بنا، وليس ضمن الدائرة المقربة وفقًا للنظرية.

ما هي “دائرة القرود” بالنسبة للإنسان؟

هي مجموعة الأشخاص الذين يعتبرهم دماغنا بشرًا. يقول العلماء إن هذا العدد مستحيل أن يكون أكبر من مئة وخمسين.

على سبيل المثال، معظمنا لا يعتبر عامل النظافة في الشارع إنسانًا، ولا نفكر فيه كشخص. كل واحد منا لديه دائرة تضم أصدقاءه وعائلته وجيرانه، فقط.

أي شخص خارج هذه الدائرة ليس إنسانًا بالنسبة لنا، بل مجرد شخصية أخرى.

أتتذكر أول مرة رأيت فيها معلمك خارج المدرسة؟ أتتذكر هذا الشعور الغريب؟ كأنهم ليسوا بشرًا، بل مجرد مدرسين. أو مثلاً، إذا كنت في وسط ديني – أيًا كان الدين الذي تنتمي إليه – كيف ترى رجل الدين خارج الشارع؟

لماذا هذا مهم؟

لأن هذا غالبًا هو السبب الذي يجعل المجتمع غير قادر على أن يعيش فيه الجميع حياة ذات قيمة – سواء كان هذا المجتمع دينيًا أو مجتمعًا دراسيًا أو مجتمع عمل أو حتى عائلات. ما الذي يحزنك أكثر، موت صديقك المقرب، أم موت عشرة أطفال في حادث؟ موت أمك، أم موت خمسة عشر ألف شخص في زلزال في سوريا؟ أو موت أشخاص من دينك يؤلمك، لكن موت أشخاص من دين آخر لا يزعجك؟

هل يزعجك أن ابن صديقك أو ابنك يتعاطى المخدرات، بينما لا تهتم بأن هناك آلاف الشباب في البلد يدمنون المخدرات كل يوم؟

هل يضايقك أن يطلق أحد المقربين منك، بينما تزداد نسبة الطلاق في مجتمعنا بشكل كبير كل يوم؟ وقس على ذلك كل الأمور التي تحدث في حياتنا.

على الرغم من أنهم جميعًا بشر، إلا أنهم كلما كانوا أقرب إلى دائرتك، كانوا أكثر أهمية بالنسبة لك. والعكس صحيح تمامًا، فموتك لن يهم شخصًا صينيًا، أو أي شخص خارج دائرتك.

السؤال أو الفكرة التي ستخطر في ذهنك الآن: لماذا يجب أن أحزن عليهم؟ أنا لا أعرفهم أصلاً!

بالضبط، هذا ما نحن مبرمجون عليه. نتعامل بمعايير مختلفة مع الأشخاص داخل دائرتنا والأشخاص خارجها.

عندما تغضب في الزحام وتصرخ في وجه السائقين، هل ستفعل ذلك مع صديقك في المصعد؟ بالطبع لا. ولكن في الزحام، نشعر بأننا لسنا بشرًا، بل نشعر بأننا جزء من قطيع كبير.

لسنا ملائكة

قد تتعامل بشكل جيد مع الغرباء، ولكن في النهاية، احتياجاتك أو احتياجات دائرتك ستجعلك تفعل أشياء تؤذي من هم خارج الدائرة.

نحن لا نسرق من جيراننا، ولكننا نسرق كابل اشتراكات القنوات الرياضية، أو نغش في الضرائب. نبرر لأنفسنا، ونقول إن هذه الشركات لصوص، ولا نتذكر أن فيها أشخاصًا مثلنا، وأن أشخاصًا قد يفقدون وظائفهم بسببنا. لن نسرق من أموال الكنيسة، ولكن يمكننا استخدام برامج مقرصنة لتشغيلها. أو أن نفعل الخير لمجموعة معينة من الأشخاص الذين يشبهوننا، ولكن ليس للآخرين.

لذلك، علمونا في الدين أن الله يرى كل شيء، حتى لو كنت تؤذي شخصًا غريبًا، فكأنك تؤذي الله نفسه.

فكرة دائرة القرود هذه تذكرني بالمشهد في مسرحية “الواد سيد الشغال” للفنان عادل إمام: عندما يسخر من الأشخاص الذين يعمل لديهم، يقول إنهم أشخاص لديهم لحم يعزمون أشخاصًا لديهم لحم لتناول اللحم. يعني في الغالب، نحن لا نعزم الأشخاص الذين لا يملكون، بل نعزم الأشخاص الذين يشبهوننا داخل دائرتنا. نحن لسنا ملائكة مهما نادينا بالمساواة وقيمة الإنسان في حد ذاته. لا، نحن نعمل بنظام القرود، ولكن بشكل متطور.

دائرة القرود في كل مكان

بمجرد أن تفهم هذا الموضوع، ستراه في كل مكان. يتحدث المحافظون عن “الليبرالية” وكأنها وحش، ويتحدث الليبراليون عن “المحافظين” وكأنهم شياطين.

ستجد كل طائفة داخل الدين الواحد تكفر الأشخاص الذين يختلفون عنها، وأي شخص لا ينتمي إلى دائرتك يصبح خارج دائرة القرود.

ستجد الطبقية موجودة في اختياراتنا واهتماماتنا بالأشخاص. على سبيل المثال، ستجد بعض الأشخاص حتى داخل الإطار الديني يصنفون اهتمامهم برجال الدين أكثر من الأفراد العاديين، أو يهتمون بالأغنياء وأنشطتهم على حساب الفقراء، ويقصونهم من اجتماعاتهم ودوائر الأفراد الأغنياء.

يمكن أن تجد في أماكن العمل انقسامات حسب نوع التعليم والدراسة والمستوى الثقافي والمادي. أو ستجد العنصرية في اللون أو العرق أو الجنس. وعندما نتحدث عن مجتمعاتنا الشرق أوسطية، سيكون التمييز الديني والجنسي والطبقي واضحًا جدًا.

نحن نحول الناس إلى رسوم متحركة، نحولهم إلى شخصيات من كلمتين، لأنهم خارج دائرتنا.

كيف نتغلب على دائرة القرود؟

أولاً: لن تتمكن من الاهتمام بستة مليارات شخص، هذه مشكلة، ولكن المشكلة الأكبر هي أنهم لن يهتموا بك.

ثانيًا: لن يهتموا بك إذا سرقوا منزلك أو خربوا سيارتك أو زادوا الضرائب عليك، أنت مجرد شكل غامض في نظرهم.

فكر في أسامة بن لادن، هل تراه مجرد إرهابي، أم تراه إنسانًا له طعام مفضل وذكريات طفولة ومشاكل؟

بمجرد أن تعرف عنه أشياء إنسانية، ستبدأ في التعاطف معه، وسيبدأ في الدخول إلى دائرتك.

الحقيقة المرة هي أننا بالنسبة له مجرد رسوم متحركة، كما هو بالنسبة لنا.

كلنا قرود

كلنا نفعل أشياء خاطئة، نفعل أشياء نؤذي بها الآخرين من أجل مصلحتنا. نرى الأشخاص خارج دائرتنا مجرد أرقام، وليسوا بشرًا.

نحن لسنا ملائكة، نحن قرود، ولكن قرود متطورة.

كيف نعيش في عالم القرود؟

مجتمعنا كله مبني على فكرة دائرة القرود. الديمقراطية التمثيلية والرأسمالية والعنصرية والاشتراكية الشيوعية والأديان والأخلاق بكل أنواعها وأشكالها، كل هذه طرق للتعامل مع عالم معقد. ولكن دعني أخبرك بما توصلت إليه اليوم، وقد يتطور أو يتغير غدًا.

أولاً: شكك في أي شيء بسيط. المشاكل لا تحل بشعارات سهلة.

ثانيًا: اعترف بأنك جاهل. كلنا جهلة، كلنا نفعل أشياء خاطئة.

ثالثًا: لا تصدق أن هناك قرودًا خارقة. السياسيون والمشاهير ورجال الدين ليسوا أفضل منا، كلهم بشر يخطئون.

رابعًا: لا تدع أحدًا يبسط لك الأمور. العالم معقد، وأي شخص يحاول تبسيطه لك غالبًا ما يحاول استغلالك.

في النهاية، كلنا قرود، ولكن يمكننا أن نعيش معًا بسلام. يجب أن نفهم أن العالم معقد، وأن كل واحد منا لديه دائرة قرود، ويجب أن نحاول توسيع هذه الدائرة لتشمل المزيد من الناس.