في المقال السابق ناقشنا سؤلاً هو: هل يمكن للإنسان أن يكون جيدًا دون أن يؤمن بالله أو بمصدر متعالٍ للقيم؟ ووصلنا لطرح قد يبدوا منطقيا ألا وهو : الله ليس منافسًا للضمير، بل منبع الضمير. ليس خصمًا للعقل، بل مصدر نوره. ومعرفته لا تُقلل من إنسانيتك، بل تُعيدها إلى بهائها الأصلي. اليوم سوف نستكمل النقاش معا في المحطة الأخيرة من تلك السلسلة وسوف يكون السؤال هو :
هل الإنسان أخلاقي بطبيعته أم أن الأخلاق مكتسبة؟
نولد أطفالًا، ضعفاء، صغارًا، لكن فينا شيء عميق…
طفل لم يتعلّم شيئًا بعد، يبكي إن رأى ظلمًا، يفرح إن احتضنته أمّه، ينكمش إن صرخ أحد في وجهه.
هل هذا هو “الخير الفطري”؟
لكن نفس الطفل، بعد سنوات قليلة، يكذب، يضرب، يُخفي خطأه، ويغار… دون أن يعلمه أحد.
فهل هذا هو “الشر الكامن”؟
هل نحن خيّرون بالفطرة؟ أم نحتاج لمن يعلّمنا الخير؟
وما دور البيئة، التربية، والدين؟
وأين تنتهي “الفطرة”، وتبدأ “النعمة”؟
أولاً: نظرتان متناقضتان عبر التاريخ
1. الطبيعة الخيّرة (Rousseau)
جان جاك روسو قال: الإنسان طيب بطبيعته، لكن المجتمع هو من يُفسده.
وهذا الطرح انتشر كثيرًا في أدبيات التنوير، حيث عُدّ الإنسان “كائنًا نقيًا”، لو تُرك على سجيته لعاش بسلام.
لكن التاريخ نفسه يكذّب هذا.
فحتى المجتمعات البدائية لم تكن خالية من الظلم، والخيانة، والقتل.
2. الطبيعة الساقطة (Augustine & Bible)
في المقابل، القديس أغسطينوس واللاهوت المسيحي يعلّمان أن الإنسان مولود بطبيعة ساقطة، متأثرة بالخطيئة.
“بالخطيئة حبلت بي أمي” (مزمور 51:5)
“الجميع زاغوا وفسدوا، ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد” (رومية 3:12)
وهذا لا يعني أن الإنسان شرير تمامًا، لكنه يعني أنه لا يستطيع أن يكون كاملاً أخلاقيًا من تلقاء نفسه.
ثانيًا: ماذا تقول الفلسفة الأخلاقية الحديثة؟
الفلاسفة المعاصرون انقسموا إلى 3 تيارات:
1. الطبيعة الخيّرة
(مثل نيتشه وسارتر، ولكن من منظور استقلالي)، ترى أن الإنسان يخلق قيمه، وهو حر ليختار الخير.
لكن هذا تجاهل لجذور الميل الأناني والغرائز المدمّرة في الإنسان.
2. الطبيعة المحايدة
(مثل جون لوك)، ترى أن الإنسان “لوح أبيض”، وأن الأخلاق تُكتسب بالتربية والتعليم.
لكن هذه النظرة تفترض أن كل ما نحتاجه هو تعليم جيد، وتُهمل الصراع الداخلي الذي نختبره جميعًا.
3. الطبيعة الساقطة (متأثرة بالخطيئة)
وهي النظرة المسيحية، ترى أن الإنسان يحمل بذور الخير لأنه مخلوق على صورة الله، لكن هذه الصورة مكسورة بسبب الخطيئة.
هو يعرف الحق، لكنه يُنكره.
يشتهي الخير، لكنه لا يفعله.
“أريد أن أفعل الحسنى، فإذا الشر حاضر عندي” (رومية 7:21)
ثالثًا: كيف نفسّر التناقض داخل النفس البشرية؟
كل واحد فينا يعرف هذا التناقض جيدًا:
-
لماذا أحيانًا نغضب من الظلم، ثم نُمارسه؟
-
لماذا نُعلّم أبناءنا ألا يكذبوا، ثم نُراوغ في حديثنا؟
-
لماذا نُعجب بالأبطال الأخلاقيين، ثم نُبرر لأنفسنا ضعفنا؟
الكتاب المقدس يقدّم شرحًا عميقًا:
“إننا مخلوقون على صورة الله” (تكوين 1:27) ← أي أن فينا توق للخير، وميل للحق، وقدرة على المحبة.
لكننا أيضًا “سقطنا” (رومية 5:12) ← أي أن طبيعتنا أصبحت مائلة إلى الأنانية، والهرب من الله.
رابعًا: هل الأخلاق تُكتسب؟
نعم، لكنها لا تُزرع في أرض محايدة، بل في قلب يميل إلى ذاته.
نحتاج إلى:
-
تربية صالحة: تغرس القيم، وتُشكّل الضمير.
-
مجتمع صحي: يشجّع على المحبة والعدل.
-
قانون عادل: يردع الشر، ويكافئ الخير.
-
نعمة إلهية: تُجدّد القلب، وتُحرّر الإنسان من عبوديته الداخلية.
أي محاولة لزرع الأخلاق دون النعمة، تُشبه من يحاول إصلاح شجرة فاسدة بتغيير ثمارها فقط.
خامسًا: المسيحية لا تُحبط الإنسان، بل تُنقذه
البعض يظن أن الحديث عن “الطبيعة الساقطة” تشاؤمي أو مُحبِط.
لكن الحقيقة أن المسيحية لا تفضح الإنسان لتدينّه، بل لتشفيه.
هي تقول لك:
-
نعم، فيك شر لا تقدر على إصلاحه وحدك.
-
نعم، لن تخلص بأعمالك أو بتربيتك فقط.
-
لكن… هناك خلاص، نعمة، وتجديد حقيقي.
“إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة” (2 كورنثوس 5:17)
سادسًا: شهادة الواقع والتاريخ
لو الإنسان صالح بالفطرة فقط، لماذا نرى كل هذا الشر؟
هل علّمت الأم ابنها أن يسرق؟
هل قالت له المدرسة أن يحتقر الفقراء؟
هل أعطته الكنيسة درسًا في الكذب؟
لا.
الواقع يصرخ بأن في الإنسان ميلًا دفينًا نحو التمركز حول ذاته، ورغبة في أن يكون “إلهًا” على عرشه الصغير.
والمجتمع لا يُفسد الإنسان دائمًا، بل أحيانًا يُعبّر عن فساده.
فالظلم في القوانين، والفساد في السياسة، والعنف في الشوارع… ليست “فيروسات طارئة”، بل أعراض مرض روحي أعمق.
سابعًا: الإنسان بين الفطرة والنعمة
المسيحية لا تُنكر وجود “بقايا الخير” في الإنسان.
لكنها تقول إن هذا الخير:
-
غير كافٍ لخلاصه.
-
غير قادر على الانتصار على الخطيئة وحده.
-
يحتاج للتجديد الداخلي بواسطة الروح القدس.
ولهذا قال المسيح لنيقوديموس:
“إن لم يولد الإنسان من فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت الله” (يوحنا 3:3)
خاتمة:
أنت لست شريرًا بالكامل، ولا خيرًا بالكامل.
أنت مخلوق على صورة الله… لكنك تحتاج أن تُسترد إلى هذه الصورة.
الإنسان ليس أخلاقيًا بطبيعته، لكنه يُولد بميل نحو الله… ويحتاج أن يختار هذا الميل، ويتجاوب مع النعمة.
الأخلاق ليست طبعًا، بل دعوة. ليست تربية فقط، بل تحوّل داخلي.
والذي لا يلمس قلبك، لا يُغيّر سلوكك.
والذي لا يُجدّد طبيعتك، لا يُعطيك قوة على الثبات في الخير.
مصادر ومراجع:
-
Augustine, Confessions
-
Rousseau, Emile
-
C.S. Lewis, Mere Christianity
-
Alvin Plantinga, Warranted Christian Belief
-
الكتاب المقدس بعهديه
يمكنك مراجعة المقالات السابقة من السلسلة : المقال الأول ، المقال الثاني ، المقال الثالث .