كلمة “الشك” قد تُخيف البعض. مجرد سماعها عند كثير من الناس يستحضر صور الانهيار الروحي أو فقدان الإيمان. لكن الحقيقة أن الشك ليس بالضرورة عدواً للإيمان، بل أحياناً يكون الطريق الذي يقودنا إلى إيمان أصدق وأعمق. فالشك ليس دائمًا هدمًا، بل قد يكون دعوة لإعادة البناء.
منذ القدم، قال سقراط: “الحياة غير المفحوصة لا تستحق أن تُعاش” 1. وديكارت بنى منهجاً كاملاً على الشك ليصل إلى اليقين: “أنا أفكر، إذن أنا موجود” 2 ، وحتى في الكتاب المقدس، تحتوي المزامير على أسئلة وصرخات من مؤمنين شعروا بقرب الله بعيداً عنهم: “حتى متى يا رب تنساني؟” 3. هذه الكلمات لا تصدر عن كافر، بل عن شخص يملك علاقة حقيقية بالله ويجرؤ على التساؤل.
الشك في جوهره ليس شيئًا واحدًا.
فقد يكون عقليًا، كالذي يبحث عن الأدلة والبراهين؛ وقد يكون عاطفيًا، نابعًا من جرح أو خيانة أو صدمة؛ وقد يكون إراديًا، أي رفض الالتزام الذي يتطلبه الإيمان. ولذا فإن التعامل مع الشك يحتاج إلى فهم “من أين جاء؟” قبل التساؤل “كيف نعالجه؟”.
الجذور التي تغذي الشك متعددة.
هناك جذور عقلية مرتبطة بنقص المعرفة أو التعرض لأفكار مشوشة عن الله 4، وجذور ثقافية في عالم يروج للأفكار الإلحادية والمادية 5، وجذور وجودية مرتبطة بالشر والألم: “كيف يسمح إله صالح بحدوث كل ذلك؟” 6، وجذور روحية تتعلق بالشعور بغياب الله في لحظات الألم . لكل جذر علاجه الخاص، ولا يصلح اعتماد وصفة واحدة لكل الأنواع.
الشك ليس أيضًا لونًا واحدًا؛
فهناك شك معرفي، وجداني، وجودي، شك ناتج عن خيانة مؤسسة دينية، وشك روحي في العلاقة المباشرة مع الله . كل نوع يحتاج إلى طريقته الخاصة في التعامل ، وعندما نفهم هذه الأنواع، ندرك أن الشك ليس علامة ضعف، بل تجربة إنسانية طبيعية جدًا.
المفاجأة أن الشك قد يكون إيجابيًا، كالنار التي تصقل الذهب 7.
لويس يقول إن الإيمان الذي لا يمر بأسئلة قد يبدو مريحًا لكنه ضعيف، أما الإيمان الذي ينجو من الشك فيصبح أقوى، لأنه لا يقوم على التقليد أو العادة، بل يُبنى من جديد بعد أن يُختبر 8. ومن الضروري تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة. ليس كل شك كفرًا، الكفر هو اختيار إرادي للرفض، بينما الشك غالبًا صرخة بحث 9.
وليس صحيحًا القول بأن “المؤمن الحقيقي لا يشك” ، فقد شكّ داود، أيوب، إيليا، وتوما الرسول في لحظاتٍ من حياتهم، والكتاب المقدس لم يخفِ قصصهم 10 ، بل إن الله قابلهم في منتصف الشك.
ماذا نفعل عندما يزحف الشك إلينا؟
أول خطوة: الاعتراف به، دون هروب أو دفن. ثم البحث بعقل متفتح، القراءة، التعلم، ومواجهة الأسئلة بشجاعة. كما يجب رعاية القلب، لأن الشك ليس مجرد مسألة عقلية، بل يحتاج إلى صلاة ومجتمع نشارك فيه مخاوفنا بدلاً من الانعزال . والأهم فهم أن الله ليس بعيدًا يراقبنا، بل يلتقي بنا داخل هذه الأسئلة 11.
وعندما نجد شخصًا آخر يشك، فإن الأهم هو الاستماع له ، لا يجوز إلقاء أجوبة جاهزة أو آيات كمسكنات. يجب الصبر، والصدق، ومشاركة التجارب. أحيانًا أكثر ما يحتاجه المشكك ليس الجواب، بل حضن أو أذن صاغية. وفي النهاية، الصلاة هي التي تفتح الطريق 12.
الشك، في النهاية، ليس هاوية تسحبنا بعيدًا عن الله، بل قد يكون جسرًا يقودنا إلى إيمان ناضج وحقيقي. الله لا يبحث عن إيمان بلا أسئلة، بل عن قلب صادق يطلبه حتى وهو لا يفهم.
الإيمان الحقيقي لا يعني وضوح كل شيء، بل الاستمرار في السير مع الله وسط الغموض 13.
المراجع
- رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية، ترجمة كمال الحاج (بيروت: منشورات الجامعة اللبنانية، 1994)، ص 45.
- رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية، ص 53.
- الكتاب المقدس، مزمور 13: 1.
- تيموثي كيلر، الإيمان في عصر التشكيك، ترجمة دار الثقافة (القاهرة: دار الثقافة، 2015)، ص 27.
- تشارلز تايلور، العصر العلماني، ترجمة فؤاد شاهين (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2016)، ص 55.
- أليستر ماكغراث، الشك في الإيمان المسيحي، ترجمة دار الثقافة (القاهرة: دار الثقافة، 2010)، ص 72.
- سي. إس. لويس، المسيحية المجردة، ترجمة دار الثقافة (القاهرة: دار الثقافة، 1998)، ص 122.
- لويس، المسيحية المجردة، ص 145.
- تيموثي كيلر، الايمان في عصر التشكيك، ص 81.
- الكتاب المقدس، يوحنا 20: 27.
- ديكارت، تأملات ميتافيزيقية، ص 53.
- جون أورتبرغ، الإيمان والشك، ص 34.
- لويس، المسيحية المجردة، ص 145.