في المقال السابق كنا نناقش سؤال : هل الأخلاق موضوعية أم نسبية؟ ومن أين يستمد الإنسان معاييره الأخلاقية؟ اليوم سوف نناقش سؤال آخر مهم في تلك القضية وهو :

 هل يمكن للإنسان أن يكون جيدًا دون الإيمان بالله؟

يبدو السؤال بسيطًا، لكنه في جوهره يحمل توترًا قديمًا بين الإيمان والضمير، بين الإنسان والله. نحن نعيش في عالم يزخر بأمثلة لأناس لا يؤمنون بالله، لكنهم يظهرون سلوكًا راقيًا: يعتنون بالمرضى، يدافعون عن العدالة، يضحّون من أجل غيرهم. فهل هذا يعني أن الخير ممكن بدون الله؟ أم أن ما نراه ليس خيرًا في جوهره بل انعكاس مشوّه لشيء أعمق؟

أولاً: التمييز بين أن “يكون الإنسان خيّرًا” و”أن يكون هناك أساس للخير”

نعم، قد يتصرف شخص لا يؤمن بالله بطريقة خيّرة، بل وأحيانًا تكون أفعاله أفضل من كثيرين يدّعون الإيمان. لكن القضية هنا ليست في “سلوك الإنسان” فقط، بل في السؤال الأعمق:
من أين تأتي هذه المعايير التي نحكم بها على السلوك؟ كيف نُقرر أن التضحية لأجل الآخر أفضل من استغلاله؟ من قال إن الرحمة أفضل من القسوة؟ هل هي آراء، أم هناك مقياس حقيقي وخارج عن الإنسان نفسه؟

ثانيًا: هل الخير مجرد شعور شخصي؟

إذا أنكرنا وجود إله، فنحن نُسقط المرجع المتعالي للقيم الأخلاقية. ما يتبقى إذن؟ مجرد أذواق؟ اتفاقات مجتمعية؟ تطور بيولوجي؟
لكننا نعلم، في أعماقنا، أن الخير ليس رأيًا. نحن لا نقول إن تعذيب طفل “غير مستحب” بل نقول إنه “خطأ”. خطأ حقيقي. خطأ يستحق الإدانة، حتى لو برّره المجتمع أو استراح له الضمير المشوّه.

ثالثًا: الأخلاق بدون الله كقانون بدون مشرّع

يشرح الفيلسوف البريطاني سي. إس. لويس هذه الفكرة بطريقة رائعة: تخيّل أنك دخلت غرفة ورأيت كتاب قوانين على الطاولة. قد تتبع ما فيه، لكنك ستسأل في النهاية: من كتبه؟ من الذي أعطاه السلطة؟
هكذا بالضبط مع القيم الأخلاقية. إذا قلنا إنها حقيقية وملزمة، فلا بد أن تكون مستمدة من كائن له السلطان على الإنسان، أي من الله. بدون الله، تصبح الأخلاق معلقة في الهواء.

رابعًا: الإلحاد والأخلاق.. تناقض أم توافق؟

الكثير من الملاحدة يحاولون بناء منظومات أخلاقية، وهذا شيء يُحترم من الناحية الإنسانية. لكن الإشكالية أنهم يستخدمون قيمًا لا يمكنهم تبريرها ميتافيزيقيًا.
الرحمة، العدل، الكرامة الإنسانية… كلها كلمات جميلة، لكنها غير مبررة منطقيًا إذا كنا مجرد كتل بيولوجية تطورت عشوائيًا.
كما قال دوستويفسكي: “إذا لم يكن الله موجودًا، فكل شيء مباح”.

خامسًا: هل الإيمان بالله يعني أن المؤمنين دائمًا أخلاقيون؟

كلا. لا يدّعي الإيمان أن كل المؤمنين صالحون. لكن الإيمان يعطي أساسًا للخير، حتى لو خانه البشر. الأمر أشبه ببوصلة: وجودها لا يعني أن كل من يملكها يسير في الاتجاه الصحيح، لكنها تظل مرجعية ضرورية لمن يريد أن يعرف طريقه.

سادسًا: هل يفقد الخير معناه إن لم يكن لله وجود؟

من الناحية الفلسفية، نعم. الخير يفترض وجود “غاية”، والغاية تفترض “مصممًا” أو “موجهًا”. إذا كنا نعيش في كون عبثي بلا هدف، فلا معنى حقيقي للخير أو للشر، بل مجرد شعور مؤقت يختلف من شخص لآخر.
لكن هذا التصور لا يُرضي أعماق الإنسان. لأننا مخلوقون على صورة الله، نشعر بأن هناك “غاية” و”معنى”، حتى لو أنكرناهما نظريًا.

سابعًا: الصوت الداخلي.. شهادة على الأصل

هل سألت نفسك يومًا: لماذا تتألم حين ترى الظلم؟ لماذا تنجذب للصدق، وتأنف من الكذب؟ هذه ليست صدفة. هذا هو “الصوت الداخلي” الذي زرعه الله فينا.
هذا الصوت ليس دليلك الوحيد، لكنه مؤشر. يشير إلى وجود منبع أعمق، أصل أسمى، خالق هو ذاته “الخير” في أنقى معانيه.

ثامنًا: الإيمان لا يُلغي حريتك.. بل يُعطيها بعدًا جديدًا

حين تؤمن بالله، لا تصبح آلة تطيع أوامر. بل تُسترد إنسانيتك. لأنك تتصل بالذي خلقك حرًا، مسؤولًا، قادرًا على الاختيار من منطلق المحبة، لا الخوف.
وهنا يُصبح الخير ليس مجرد “قانون”، بل “دعوة” إلى التشبه بالله، إلى أن نكون أبناء النور، أبناء من هو “كلي المحبة”.

خاتمة: هل يمكن أن أكون خيّرًا بدون الله؟

ربما من حيث السلوك الظاهري، نعم. لكن من حيث الجذور، من حيث التبرير الفلسفي، من حيث الغاية… لا. الخير الحقيقي لا يمكن فصله عن منبعه.
أنت تستطيع أن تضيء مصباحًا، لكن بدون كهرباء لن يستمر. هكذا الإنسان بدون الله: قد يلمع للحظة، لكن سرعان ما ينطفئ إن لم يكن موصولًا بالينبوع.

سوف نكمل النقاش في رحلتنا من خلال المقال الثالث والذي سوف نناقش فيه سؤلً هاماً ألا وهو: ما الذي يجعل الفعل أخلاقي أو غير أخلاقي ؟

مصادر ومراجع:

  • C.S. Lewis, Mere Christianity
  • Dostoevsky, The Brothers Karamazov
  • William Lane Craig, On Guard
  • Francis Schaeffer, He Is There and He Is Not Silent
  • الكتاب المقدس بعهديه