في المقال الأول، تأملنا أزمة الاستعلان بين الكائن والله؛ وفي المقال الثاني، خضنا في مأساة الأقنعة التي يصنعها الإنسان لحماية هشاشته. لكن كل قناع، مهما بدا لامعًا، يحمل في طياته وعدًا خادعًا بالخلاص، ولا يجلب إلا مزيدًا من الاغتراب. الآن، نقف أمام السؤال الأصعب: كيف ينهض الإنسان من بين أنقاض أقنعته؟ كيف ينتقل من الاحتجاب القاتل إلى انكشاف يحيي الروح؟ في هذا الجزء الثالث، نمضي أعمق نحو الرجاء: قيامة الإنسان حين يجرؤ أن ينكشف كما هو، ويجد في الله لا دينونة، بل حضنًا للعودة.

١. عبودية الأقنعة: حين يصير الخوف هو السيد

في صراع الكائن مع ذاته، تبدو الأقنعة في البداية كحل ذكي: وجهٌ يرتديه الإنسان ليخفي ضعفه عن العالم. لكنه مع الوقت، لا يعود الإنسان يرتدي القناع فقط أمام الناس، بل يبدأ في نسيان وجهه الحقيقي تحته. وكما يقول بول تيليش:

“الخوف من الانكشاف يحكم أعماق الإنسان، ويحوّله إلى سجين لصورة لا تشبهه.”

تغدو الحياة سلسلة من العروض: دور في البيت، دور في العمل، دور في الكنيسة، حتى مع الذات يصير هناك قناع داخلي يحجب الحقيقة. بهذا، لا يعيش الإنسان حقيقته بل يعيش توقعات الآخرين عنه. وكلما زادت الأقنعة، زاد الشعور بالاغتراب الداخلي. هايدجر يحذر من هذا حين يتحدث عن “الوجود الزائف”، حيث يضيع الكائن في “ما يُقال” و”ما يُنتظر” بدل أن يصغي إلى نداء كيانه الأصيل.

٢. لحظة الأزمة: تصدع القناع وسقوطه

لا تستطيع الأقنعة أن تصمد إلى الأبد. يأتي يوم تنهار فيه الصورة المصطنعة، إما بانكشافٍ خارجي (فضيحة، مرض، خيانة)، أو داخلي (شعور عارم بالفراغ والعجز عن الاستمرار).

هذه اللحظة، رغم قسوتها، تحمل إمكانية الخلاص. حين يتشقق القناع، يطلّ الوجه الحقيقي المرتعش، الباحث عن محبة لا تُشترى بالأداء، وعن قبول لا يُمنح للواجهة بل للكائن الجريح.

كيركغرد يسمي هذه اللحظة “اللحظة العظيمة”، حين يواجه الإنسان ذاته الحقيقية للمرة الأولى، ويضطر أن يختار: إما العودة اليائسة إلى نسج قناع آخر، أو المخاطرة بالانكشاف الكامل أمام الله.

٣. الله والكائن: اللقاء بدون أقنعة

في مشهد عظيم من سفر التكوين، بعدما اختبأ آدم وحواء خلف أوراق التين، نادى الرب: “أين أنت؟” (تكوين 3: 9).

لم يكن هذا السؤال إدانة، بل دعوة للظهور، للانكشاف. الله كان يعلم أين يختبئ الإنسان، لكنه كان ينتظره أن يأتي من تلقاء نفسه، أن يسقط أوراقه، وأن يعترف بخوفه وعريه. الاستعلان الإلهي هنا هو احتضان لا فضيحة. في المسيح، يتجسد هذا الاستعلان بأبهى صوره: الكلمة صار جسدًا، دخل إلى هشاشتنا، تألم معنا، وفتح لنا باب العودة بدون أقنعة. يكتب القديس أغسطينوس في “الاعترافات”:

“أين أهرب منك؟ أنت النور الذي يكشفني لا ليخزيني، بل ليشفيني.”

٤. الانكشاف في العلاقات: جرأة أن تكون معروفًا

انكشاف الإنسان أمام الله هو البداية فقط. الدعوة تمتد لتشمل العلاقات الإنسانية. أن تحيا مكشوفًا يعني أن تدخل العلاقات دون محاولة مستميتة لإثبات ذاتك، أو لتجميل صورتك، أو لاختراع نسخة مقبولة منك. كتب هنري نووين: “الحب الحقيقي هو أن تُعرف كما أنت، لا كما تتظاهر أن تكون.”

لكن الانكشاف أمام الآخر ليس خاليًا من المخاطرة. قد تُرفض. قد تُجرح. ولهذا، يتطلب الانكشاف شجاعة وجودية عظيمة:

أن تضع قلبك العاري في يد الآخر، وتقبل أن محبته لك أو رفضه لا تحدد قيمتك.

في هذا السياق، يصير الانكشاف نوعًا من الإيمان: ثقة أن قيمتي لا تُمنح من الخارج، بل هي ثابتة في نظرة الله لي.

٥. موت الأقنعة: قيامة الإنسان

الموت الذي يتحدث عنه الإنجيل ليس موت الجسد فقط، بل موت “الإنسان العتيق” (رومية 6: 6) — أي الكائن المزيّف، المتقنع، الخائف. بالمعمودية، نُدفن مع المسيح ونقوم معه، عراة من أقنعة الأداء والاستحقاق. القيامة ليست فقط حدثًا مستقبليًا بعد الموت الجسدي، بل هي تبدأ هنا والآن: حين أجرؤ أن أكون ذاتي، مكشوفًا، محبوبًا، متصالحًا مع جراحي. وهكذا يصير الانكشاف ليس عارًا بل احتفالًا بالحياة الجديدة، حياة من يسيرون “في النور كما هو في النور” (1 يوحنا 1: 7).

خاتمة: نحو شفافية الكائن

في النهاية، دعوة الله للإنسان ليست مجرد التخلص من الأقنعة، بل الدخول إلى حياة من الشفافية الشجاعة.

حياة تُبنى لا على الأداء بل على القبول.

لا على الصورة بل على الجوهر.

لا على الخوف بل على المحبة.

يقول يسوع: “تعرفون الحق، والحق يحرركم” (يوحنا 8: 32).

الحق ليس مجرد فكرة، بل هو الانكشاف الحقيقي أمام الله، والآخر، والنفس.

وحين يحدث هذا،

يبدأ الكائن أن يعيش قيامته: لا كمن يرتدي قناعًا براّقًا، بل كمن صار نورًا يُرى ولا يخشى أن يُعرف.

المراجع

  • مارتن هايدجر، الكينونة والزمان (Sein und Zeit).
  • سفر التكوين.
  • القديس أغسطينوس، الاعترافات.
  • هنري نووين، الحياة الداخلية.
  • بول تيليش، التحلي بالشجاعة (The Courage to Be).
  • سورين كيركغور، الخوف والارتجاف.
  • الرسالة إلى رومية.
  • رسالة يوحنا الأولى.
  • إنجيل يوحنا.