في عتمة الوجود، حيث يتقاطع الانكشاف مع الاحتجاب، عندما يتحرك الإنسان بين قناع يكتم صرخته وأملٍ خافت بأن يُرى كما هو. بعد أن كشفنا في المقال الأول أزمة الاستعلان بين الكائن والله، نغوص الآن أعمق في مأساة الأقنعة: كيف ينسجها الإنسان هربًا من خوفه الأزلي، وكيف يصير الاحتجاب قيدًا يكبّل روحه. لكن خلف هذا القلق، تلوح دعوة إلهية إلى انكشاف شجاع، ينقذ الكائن من عبثية التنكر ويعيده إلى حضن أصالته المفقودة. في هذا المقال، نسير في رحلة الكائن بين الاحتجاب والانكشاف، بين الزيف والصدق، ونحاول أن نلامس كيف يكون الخلاص ممكنًا، حين يتعلم الإنسان أن يسقط قناعه أمام الله، والآخر، ونفسه.

1. القناع كآلية دفاعية وجودية

في رواية سقوط الإنسان في سفر التكوين، حين “اختبأ آدم وامرأته من وجه الرب”، صار القناع جزءًا لا يتجزأ من تجربتنا الوجودية. لم يعد الإنسان يحتمل نظرة الآخر إليه عاريًا من التبريرات والمظاهر. فالقناع، بهذا المعنى، ليس مجرد زيف أخلاقي، بل محاولة وجودية لتخفيف وطأة الظهور.

يكتب بول تيليش أن الخوف من الانكشاف مرتبط ارتباطًا جوهريًا بخوف الإنسان من العدم، من الهشاشة المطلقة. لذلك، يرتدي الإنسان قناع القوة أو الحكمة أو النقاء كي يحمي ذاته المتصدعة من الانكشاف المؤلم.

2. الاحتجاب كمرض روحي

لكن، مع مرور الزمن، يتحول القناع من وسيلة حماية إلى سجن. لا يعود الإنسان قادرًا على التمييز بين قناعه وذاته الحقيقية. يدخل في حالة من الاحتجاب الروحي، حيث يفضل الموت البطيء خلف الأقنعة على مجازفة الانكشاف. هذا ما عبر عنه كيركغور بقوله:

“الخطر الأكبر هو أن تضيع نفسك دون أن تدري أنك قد فقدتها”.

الاحتجاب إذًا ليس مجرد خطيئة، بل مرض يفتك بجوهر الإنسان، ويبعده عن الله، وعن الآخرين، وعن ذاته الحقيقية.

3. أزمة العلاقات الإنسانية تحت الأقنعة

حين تتأسس العلاقات على الأقنعة، تصبح مجرد تبادل أدوار، لا لقاء كيانات. كل طرف يتعامل مع صورة الآخر لا مع حقيقته. ومن هنا يأتي شعور الوحدة العميق حتى وسط الزحام.

يقول الفيلسوف غابرييل مارسيل إن “الإنسان لا يُعرف عبر ما يظهر به، بل عبر ما يستتر خلفه”. لذلك، العلاقات المبنية على الاحتجاب محكوم عليها بالسطحية والانهيار مع أول لحظة انكشاف حقيقي.

4. الانكشاف كطريق إلى الحرية

في مقابل ثقافة الأقنعة، يقدم المسيح دعوة جذرية للانكشاف: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (متى 11: 28). هذه الدعوة تتطلب الشجاعة للتخلي عن كل الأقنعة: قناع البر الذاتي، قناع القوة الزائفة، قناع الكفاية المزيفة. تقول الكاتبة أحلام مستغانمي ” لا أحد يعلن عن نفسه ، الكل يُخفي خلف قناعه جرحاً ما، خيبة ما، طعنة ما، ينتظر أن يطمئنَّ إليك ليرفع قناعه ويعترف:ما استطعتُ أن أنسى ! “

لذلك انكشاف الإنسان أمام الله ليس إذلالاً بل تحررًا. لأنه في حضرة المحبة المطلقة، يمكن للإنسان أن يرى ذاته بصدق دون أن يُدان، بل أن يُشفى ويُحرر.

5. المجازفة بالظهور: الطريق إلى المحبة الحقيقية

لا محبة حقيقية بدون مجازفة الانكشاف. أن تُحب يعني أن تجرؤ على أن تظهر كما أنت، بكل ضعفك وجمالك. وهذا ما يكتبه بول تيليش حين يقول: “القبول المطلق هو الجواب النهائي على خوف الإنسان من الانكشاف”.

العلاقات المبنية على الانكشاف الصادق، رغم ألمها وخطورتها، هي الوحيدة القادرة على منح الإنسان خبرة المحبة الحقيقية، تلك التي تشبه محبة الله لنا.

6. القناع والهوية: أين تبدأ الذات الحقيقية؟

سؤال مهم يطرحه علم النفس واللاهوت: متى يصبح القناع هوية؟ ومتى يتحول الدفاع المشروع إلى زيف مرضي؟ يجيب هايدجر بأن الإنسان الزائف هو من يعيش حسب توقعات الآخرين لا حسب نداء وجوده الأصيل.

لذلك، التحرر من القناع لا يعني رفض كل حماية أو كل اعتبار للآخرين، بل يعني الشجاعة لأن تكون أصيلًا، وأن تعيش في ضوء ما أنت مدعو أن تكونه لا ما يفرضه عليك الخوف أو الطمع أو التقاليد العمياء.

7. الاحتجاب كرفض للنعمة

حين يرفض الإنسان الانكشاف أمام الله، يرفض أيضًا أن ينال نعمته. لأن النعمة تُعطى للذين يعترفون بحاجتهم، للذين يكشفون جراحهم لا الذين يخفونها.

يقول يوحنا: “إن اعترفنا بخطايانا، فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم” (1 يوحنا 1: 9). الاعتراف والانكشاف هما إذًا مدخل الغفران والشركة.

8. تجسد الكلمة: أعظم انكشاف إلهي

في رأيي – وقد تختلف معي – أن التجسد هو القمة القصوى لانكشاف الله للعالم. الله الذي لا يُرى صار منظورًا. صار مرفوضًا ومصلوبًا لكي يفتح الطريق أمام الإنسان ليختبر جرأة الظهور دون خوف. كتب يوحنا: “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا، ورأينا مجده” (يوحنا 1: 14). في المسيح، صار الانكشاف علامة حب لا مصدر خوف ، لكن لكل انكشاف ثمن.

من الاحتجاب إلى الانكشاف

دعوة الله لنا ليست أن نحطم ذواتنا، بل أن نزيل الأقنعة التي تغلفها لنراها كما هي، ونسمح لنوره أن يضيء أعماقنا. الطريق من الاحتجاب إلى الانكشاف هو طريق العودة إلى الله، إلى الذات، إلى الحقيقية.

فهل نجرؤ أن نخلع أقنعتنا، ونخرج إلى النور، مهما كانت الكلفة؟ هذا ما سوف نستكمله في المقال التالي لهذه الرحلة.

المراجع:

  • بول تيليش، The Courage to Be.
  • مارتن هايدجر، Sein und Zeit.
  • سفر التكوين.
  • الإنجيل بحسب يوحنا.
  • الرسالة الأولى ليوحنا.
  • غابرييل مارسيل، The Mystery of Being.
  • سورين كيركغرد، الخوف والارتجاف.