منذ البدء،
والإنسان عالق في مأزق الظهور والاختباء. يرغب أن يُعرف، أن يُحب، أن يُرى كما هو، لكنه يرتعد من فكرة أن تنكشف هشاشته أمام عين ترى كل شيء. في عمق وجوده، يحلم بالاستعلان الكامل، لكنه يخشى أن يواجه انعكاس صورته الحقيقية في مرآة الوجود. هنا، تتقاطع الأسئلة الفلسفية مع أعمق النداءات اللاهوتية: هل يمكن للإنسان أن يُستعلن بلا خوف؟ هل يمكن أن ينكشف أمام الله دون أن يُدان، وأمام الآخرين دون أن يُرفض؟ في هذه السلسة من المقالات، نسير معًا في رحلة بين تصورات هايدجر عن الانكشاف، وشهادة الأسفار المقدسة عن استعلان الله والإنسان، لنكتشف كيف تتحول أزمة الانكشاف إلى باب خلاص، وكيف يصبح الجرح نافذة نحو النور.
في دراسته للوجود، قدّم مارتن هايدجر في عمله “الكينونة والزمان” تصورًا مختلفًا للكائن، ليس كمعطى جامد، بل كحقيقة لا تُفهم إلا عبر انكشافها. الكائن ليس مجرد “موجود”، بل “ينكشف” عبر تواصله مع ذاته والعالم. ومن هنا، تصبح ظاهرة الانكشاف محور فهم الوجود ذاته.
1. الانكشاف كشرط للوجود:
يقول هايدجر: “الوجود لا يُفهم إلا من خلال انكشافه”. بمعنى أن الكائن، وخصوصًا الإنسان ، لا يملك وجوده مستقلاً عن العالم، بل يُشكّل وجوده عبر تعرّيه أمام الآخرين وأمام نفسه.
لكن الإنسان لا ينكشف بسهولة؛ إنه يختبر أزمةً وجوديةً في كل محاولة للكشف عن ذاته. هذا ما يعبر عنه سفر التكوين حين يُعلن أن “اِخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ” (تكوين 3: 8). الخوف من الانكشاف مرتبط بالخطيئة: كما في رواية السقوط، الإنسان يخشى أن يُرى كما هو.
2. أزمة الإنسان في الانكشاف:
الإنسان، إذًا، يتوق إلى أن يُعرف ويُحب، ولكنه يخشى أن يظهر عاريًا بلا أقنعة. في علاقاته، يبحث عن اعتراف الآخرين بوجوده، ولكنه في ذات الوقت يرتدي أقنعة ليحمي هشاشته. يلاحظ الفيلسوف سورين كيركغرد (Søren Kierkegaard) أن “أعظم مأساة للإنسان هي أنه لا يجرؤ أن يكون ذاته أمام الله والناس”.
هايدجر يشير إلى هذا التوتر الداخلي حين يتحدث عن “الوجود الزائف” (Inauthentic Existence)، حيث يضيع الإنسان في ما يتوقعه الآخرون منه، بدل أن يعيش كيانه الأصيل. الانكشاف الحقيقي، بالنسبة لهايدجر، يتطلب شجاعة وجودية نادرة.
3. استعلان الله واستعلان الإنسان:
في المقابل، استعلان الله مختلف جذريًا. حين أعلن الله ذاته لموسى قال: “أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ” (خروج 3: 14). لا تردد، لا خجل، لا انتظار لقبول أو رفض. الله يكشف ذاته لأنه الحقيقة المطلقة، وليس لأنه بحاجة إلى اعتراف.
هذا الاستعلان الإلهي يُقدِّم نموذجًا لماهية الإعلان الحقيقي: لا بحثًا عن الاعتراف، بل تعبيرًا عن ملء الكينونة. ولهذا كتب القديس أغسطينوس: “الله لا يحتاج إلى شيء، بل يفيض ليُشركنا في ذاته” (الاعترافات، الكتاب الأول).
أما الإنسان، فحين يكشف ذاته، يكشف عن نقصه، عن احتياجه. ولهذا، يختبر ألم الرفض، وصراع القبول، وخوف الانكشاف.
4. العلاقات الإنسانية كمسرح للأقنعة:
حين يخشى الإنسان الانكشاف، تتحول علاقاته إلى عروض مسرحية. كل طرف يرتدي قناعًا يناسب الدور الذي يريد أن يؤديه، بدلاً من أن يكشف ذاته الحقيقية. ولذلك قال بول تيليش :
“الخطيئة الجوهرية هي الانفصال: أن أفصل نفسي عن ذاتي، عن الآخرين، وعن الله”.
العلاقات إذًا، ما لم تُبنَ على انكشاف حقيقي، تبقى علاقات سطحية، عاجزة عن إشباع عطش الإنسان للمعرفة والحب الحقيقي.
5. الخلاص كإمكانية الانكشاف الحقيقي:
الحل الوحيد لأزمة الانكشاف يكمن في الاستعلان الإلهي. حين يختبر الإنسان أن الله قد رآه وعرفه وأحبه وهو في أقصى ضعفه، يتحرر من خوف الانكشاف.
يقول الكتاب:
“الله بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ ﻷَجْلِنَا” (رومية 5: 8).
استعلان الله في المسيح يُظهر أن معرفة الله لنا لا تفضي إلى دينونة بل إلى خلاص. لذلك، يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم أن “الله لا يفضح ليهين، بل ليشفي”. حين يتعلم الإنسان أن انكشافه أمام الله لا يؤدي إلى هلاكه بل إلى خلاصه، يبدأ شيئًا فشيئًا أن ينكشف بأمان أمام نفسه وأمام الآخرين.
6. الانكشاف والتجسد:
تجسد الكلمة في المسيح هو أعظم إعلان عن انكشاف الله للعالم. في شخص يسوع، صار الله منظورًا، ملموسًا، قابلاً للمس، بل وقابلاً للرفض.
كتب الرسول يوحنا: “وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ” (يوحنا 1: 14). الله اختار أن ينكشف لا كمجرد فكرة بل ككائن حي، يحتك بجراح الإنسان وضعفه. وهكذا، لا يعود الإنسان مدعوًا فقط إلى إعلان ذاته، بل إلى أن يُقيم علاقاته على مثال انكشاف المسيح: انكشاف محب، لا يخشى الرفض.
خاتمة: نحو انكشاف أصيل
دعوة الله للإنسان ليست مجرد دعوة للانكشاف، بل للانكشاف الآمن في حضرة محبة أبدية. الاستعلان الإلهي يفتح للإنسان باب المصالحة مع ذاته ومع الآخر.
يقول الرب: “لاَ تَخَفْ، لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي” (إشعياء 43: 1). في هذه الدعوة، يتحقق أعظم ما حلم به هايدجر: أن ينكشف الإنسان لا خوفًا من الموت، بل احتفالاً بالوجود.
هكذا فقط، يخرج الإنسان من قفص الأقنعة، ويصير شفافًا، محبوبًا، وكائنًا كما قصده الله منذ البدء.
المقال التالي سوف نناقش سؤالا هاماً وهو :مأساة الأقنعة: كيف ينسجها الإنسان هربًا من خوفه الأزلي، وكيف يصير الاحتجاب قيدًا يكبّل روحه، وكيف يبدأ في رحلة من الانكشاف ؟
المراجع:
Martin Heidegger, Being and Time (1927)
سفر التكوين
سفر إشعياء
الرسالة إلى رومية
القديس أغسطينوس، الاعترافات
Paul Tillich , The Courage to Be
يوحنا الذهبي الفم، عظة لأهل رومية
سورين كيركغرد، الخوف والارتجاف