من “قصة الإله” إلى كشف القصة الحقيقية للإنسان الباحث عن الله
في إحدى حلقات The Story of God، يقف مورغان فريمان وسط معابد البوذيين، وأمام قبة الفاتيكان، وفي صحراء القدس، ويسأل السؤال الذي ظن أنه يحمل في طيّاته الجواب: هل يمكن أن تكون كل الأديان صحيحة؟ هل كل الطرق تؤدي إلى الإله نفسه؟
تتنقل الكاميرا برهفة بين المآذن والأجراس، بين الترانيم وأصوات المانترا. كل مشهد يهمس: كلنا نبحث عن النور ذاته. وفي ختام الحلقة يهمس فريمان: “ربما نختلف في اللغة، لكننا نصعد إلى ذات القمة.” جملة شاعريّة جذابة. لكنها في العمق افتراض فلسفي غير ممكن لأنه يبدأ من راحة لا من حقيقة.
التعددية الحديثة: عقيدة الراحة لا الحقيقة
الفكر الليبرالي يرى التعددية الدينية كعلامة نضج وتسامح؛ أن تقول إن “كل الأديان تؤدي إلى الله” يبدو إنسانيًا وراقيًا. لكن تحت هذا اللمعان يكمن تناقض قاتل: فالقائل بذلك لا يلغي الحصرية، بل يصنع حصرية جديدة باسم التعددية. لأنك بمجرّد أن تزعم أن جميع العقائد صحيحة، فأنت في الواقع تعلن أن مَن يرى أن إيمانه وحده هو الحق فهو مخطئ — أي أنك أنت وحدك تملك الحقيقة عن الحقيقة.
من أين جاء وهم “التشابه بين الأديان”؟
يقال إن الأديان “تتشابه في الجوهر وتختلف في التفاصيل”. فحص سريع لمضمونها يكشف أن هذا القول غير علمي وغير منطقي. لننظر إلى أربع نقاط جوهرية:
طبيعة الله
في البوذية: لا إله شخصي أصلًا. في الهندوسية: آلهة متعددة منبثقة من جوهر واحد. في الإسلام: إله واحد متعالٍ لا يتجسد. في المسيحية: إله واحد في ثلاثة أقانيم، محبة في ذاته، دخل التاريخ في شخص المسيح. هذه ليست اختلافات في “الأسلوب” بل تناقضات جوهرية.
فحتي الأديان المعترفة بإله واحد وترفض التعددية، هي تختلف في نوع ومعني وطبيعة واساس الوحدانية . فكون انهم اتفقوا عل انه واحد من حيث العدد ، هذا لا يعني ابدأ انه هو نفس الاله ، بل علي العكس ، فهم يختلفون عن معني الواحد وطبيعته ونوعه. وهنا هو اختلاف جوهري في اولي العقائد وابسطها، فما بالك بالاكثر جوهرية وتعقيدا!
طبيعة الإنسان
في بعض التعاليم الإنسان شرّ يجب أن يذوب في الوعي الأعلى، وفي أخرى إله صغير ضل عن أصله، وفي المسيحية إنسان مخلوق على صورة الله لكنه سقط. هذه اختلافات ليست سطحية بل تحدد الهدف من الدين نفسه.
الخلاص
البوذية: التحرر من الرغبة؛ الإسلام: الطاعة والميزان؛ الهندوسية: كسر دورة الكارما؛ المسيحية: الخلاص بالنعمة لأن الله جاء بنفسه ليكمل ما لم نستطع. أربع نهايات مختلفة، لا يمكن أن تكون جميعها طرقًا صحيحة لمقصد واحد.
الواقع النهائي
في بعض المدارس الوجود “وهم” يتلاشى الذات، وفي المسيحية الذات تُقام للحياة الأبدية. مرة أخرى، لا اتفاق جوهري—بل رؤى متضادة عن القضية الأساس: ما هو الوجود؟
إذن التشابه الظاهري يجري عند مستوى الفاكهة الأخلاقية: الصدق، الرحمة، الإيثار. لكن هذه ثمار الإيمان لا جذوره. أنها قيم مشتركة لا تثبت صحة جذور العقائد أو صِدق ادعاءاتها الميتافيزيقية.
لماذا يسقط المنطق التعددي؟
التعددية تدّعي أن كل التصورات متآلفة. لكن إذا قال دين إن “الله تجسّد” وآخر إن “الله لا يمكن أن يتجسد” فليس هنا اختلاف لغوي، بل تعارض منطقي. القاعدة الأساسية للمنطق—عدم التناقض—تمنع أن يكون الشيء ونقيضه صحيحين في نفس البُعد. فإذا أردنا أن نحافظ على معنى “الصدق” لا بد أن نرفض فرضية صحة كل الأديان في آن معًا.
تصريحات المسيح: حصرية الحب لا الكبرياء
حين قال يسوع: أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي
، لم يطلق شعارًا طائفيًا، بل أعلن حقيقة ميتافيزيقية ووجودية.
في الإطار اللاهوتي
المسيح هنا لا يرشد إلى فكرة، بل يقدّم علاقة. هذا يغيّر مفهوم الحقيقة من “معلومة” إلى “لقاء”. ايضا يقدم المسيح نفسه انه الطريق والحق والحياة ، لانه أعلن انه هو الله المتجسد. هنا المسيح يقدم نفسه انه الطريق لمعرفة الله لأنه هو الله المتجسد، ويقدم نفسه انه هو الحق بشكل حصري لأنه حل أكبر مشكلة وجودية روحية اساسية هي مشكلة الخطية التي بسببها تاه الإنسان عن الحق ، وقدم نفسه انه هو الحياة لأنه انتصر علي الموت وقام من الاموات ، فلا احد يستطيع ان يوجه الموت وينتصر عليه سوى الله لانه هو معطي الحياة. لذلك كان من الطبيعي ان يصرح المسيح بتلك الحصرية الثلاثية ، مقدما البراهين علي صحة ادعائه هذا.
في الإطار العلمي والفلسفي
ادعاءات المسيح قابلة للاختبار التاريخي والعقلي: معجزات علنية، شهادات عيان، وحدث القيامة الذي يفسّر اندفاع التلاميذ وتحولهم من خوف إلى شهادة بالموت. إن ثبت تاريخيًا أن القيامة حدثت—فإن الادعاء المركزي للمسيحية يتلقى دعامة منطقية قوية. وإن لم يحدث، تنهار الحجة. لكن عقل منصف لا يتجاهل التغيير التاريخي الذي نتج عن هذه الادعاءات.
المنطق الإنساني أمام الحصرية الإلهية
الإنسان المعاصر يسأل: لماذا يُحصر الحق في طريق واحد؟ أجيب: لأن المناقشة ليست عن الإقصاء بل عن الاتساق. إذا ادعت أن الحقيقة أعلنها الله ذاته في تاريخ معين (بتجسد وموت وقيامة)، فليس من المعقول أن ترى أن نفس الحقيقة تُحقق بمعانٍ متناقضة في وقتٍ واحد. الحصرية هنا ليست نفيرًا للمستبعدين بل إعلان لحقيقة دخلت التاريخ.
البُعد الوجودي: الطريق الذي يجرّح ليشفي
التعددية تمنح راحة: إبقَ كما أنت، المهم أن تكون صادقًا. المسيح يعرض علاجًا يتطلب مواجهة: “تعال كما أنت، لكن لا تبق كما أنت”. الحقيقة تصدم أولًا لأنها تكشف المرض، لكنها تُثمر حرية وشفاءًا عميقًا. الحصرية المسيحية إذن تحرّر لا تقمع، لأنها توحي بأن الله نزل إلى ضعفنا لا أنه يرمي حكمًا من مكانٍ عالٍ.
حين يلتقي التاريخ بالفلسفة
الحجة المسيحية تقترن بمنهج تفسيرٍ شامل للبيانات: لماذا الكون مُنظّم؟ لماذا لدينا إحساس بالواجب الأخلاقي؟ لماذا يتحول الألم إلى معنى عند البعض؟ لماذا شهد التاريخ لتغيير جذري بدأ من قبر فارغ؟ الإجابة المسيحية تقدم اتساقًا بين ما نلاحظه تاريخيًا وبين ما نقرأه فلسفيًا عن الحق والوجود.
لماذا التشابه الظاهري لا يكفي؟
القول بأن الأديان “تتشابه” غالبًا قائم على أمثلة أخلاقية وسلوكية: الرحمة، التسامح، البذل. لكن هذه أمور يمكن أن تنمو في جذور فلسفية متغايرة. وجود سلوك أخلاقي مشترك لا يعني اتحادًا لاهوتيًا أو ميتافيزيقيًا. قد تتقاطع طرق عديدة في بعض الممارسات دون أن تتفق في الهدف أو الرؤية النهائية.
الخاتمة: الطريق ليس فكرة… بل شخص
في The Story of God يختتم مورغان فريمان: “ربما كلنا في طريقنا إلى النور ذاته.” لكن إن كان النور شخصًا—وليس مجرد حالة—فلا يمكن أن تكون كل الطرق إليه صحيحة بالمعنى الذي يضمن بقاء معنى “الصدق” و“العلاقة”.
المسيحية لا تبدأ من إنسانٍ يبحث عن إله بمجهوده، بل من إلهٍ خرج يبحث عن الإنسان. ليست طريقًا نصوغها نحن، بل طريقٌ نُهدى إليه: شقّ من السماء إلى الأرض. الحصرية هنا ليست ظلماً بل رحمة مُقدّرة: لأن إنسانًا يسير في متاهة لا يُترك لمصيره، بل يُقاد من مصدرٍ دخل المتاهة بنفسه ليُخرجنا.
الطريق ضيّق، نعم؛ لكنه الطريق الذي فُتح من السماء إلى الأرض. ليس بابًا مغلقًا، بل قلبًا مفتوحًا—إلى الأبد.
خلاصة المقال في سطور
- التعددية الدينية ليست اتساعًا، بل عجز عن مواجهة التناقض.
- لا يوجد جوهر مشترك بين الأديان لأن تصوراتها عن الله والإنسان والخلاص متضادة جذريًا.
- من يقول إن “كل الأديان صحيحة” يؤسس ديناً جديداً للحيرة الهادئة.
- المسيح لم يقدّم نظرية عن الله، بل تجسّد كإعلان لله نفسه.
- الحصرية المسيحية ليست إغلاقًا، بل فتح طريق وُجد بالحب والتاريخ والمنطق.
أنا مسيحي، لا لأن المسيحية تعطيني كل إجابة جاهزة، بل لأنها وحدها تجعل أسئلتي أعمق، وألمي له معنى، وحياتي لها اتجاه، وموتي له رجاء.
للقراءة الإضافية
تيموثي كلر — Reason for God
سي. إس. لويس — Mere Christianity
بيتر كريفت — Handbook of Christian Apologetics
جون لينوكس — Against the Flow.