هل الأخلاق موضوعية أم نسبية؟ ومن أين يستمد الإنسان معاييره الأخلاقية؟

مقدمة:

كل إنسان، أيًا كان دينه أو خلفيته أو ثقافته، يواجه مواقف تجبره على الاختيار بين الخير والشر، العدل والظلم، الرحمة والقسوة.
لكن السؤال الكبير هو: هل هذه القيم الأخلاقية التي نحكم بها على أفعالنا وأفعال غيرنا مطلقة وثابتة؟
أم أنها نسبية، تتغير حسب الزمان والمكان؟
وهل ضمير الإنسان وحده كافٍ ليهديه، أم يحتاج إلى مرجعية أسمى تتجاوزه؟

دعونا نغوص معًا في هذا السؤال الجوهري الذي يحدد معنى الحياة الأخلاقية من الجذور.

أولاً: ماذا نعني بموضوعية الأخلاق؟

عندما نقول إن الأخلاق “موضوعية”، فنحن نعني أن هناك معايير أخلاقية ثابتة ومستقلة عن الأفراد أو المجتمعات.
فالقتل ظلم، سواء وقع في القاهرة أو كوبنهاغن. والوفاء فضيلة، سواء كان في القرن الأول أو القرن الحادي والعشرين.
هذا ما نراه في قلوبنا حين نرى مشهدًا لاعتداء على طفل، أو قصة عن أم ضحّت بنفسها من أجل أولادها.
نحن لا نكتفي بوصف الفعل، بل نحكم عليه حكمًا أخلاقيًا: هذا “صواب”، وهذا “خطأ”.

لكن النسبية الأخلاقية تقول العكس: “ما تراه خيرًا قد يراه غيرك شرًا، وما تراه ظلمًا قد يراه مجتمع آخر عدلًا”.
في عالم النسبية، لا توجد حقائق أخلاقية ثابتة، بل كل شيء قابل للتفاوض.

ثانيًا: هل فعلاً كل مجتمع يصنع “أخلاقه”؟

النسبية الأخلاقية تبدو جذابة على السطح، لأنها توحي بالتسامح والانفتاح. لكن دعونا نتأمل قليلًا.

  • إذا كانت الأخلاق نسبية، فهل يمكننا إدانة النازية؟ أو الرق؟ أو الاغتصاب الجماعي في الحروب؟
  • إذا كان كل مجتمع يحدد “قيمه”، فهل نقول إن ما فعله هتلر “صواب في نظره”؟

كلا، الضمير الإنساني السليم يصرخ فينا: هناك أفعال شريرة بطبيعتها، لا يمكن تبريرها بثقافة أو زمان أو سياق.

وحتى من يدّعي النسبية، يعيش في الواقع كأن الأخلاق موضوعية. هو يغضب إن ظُلِم، ويدين الظلم، ويدافع عن حقوقه وكرامته كأنها حقيقة مقدسة.
فالسؤال إذًا ليس: “هل نؤمن بالأخلاق؟”، بل: “ما مصدر هذه الأخلاق التي نشعر بسلطانها في داخلنا؟”

ثالثًا: من أين يستمد الإنسان معاييره الأخلاقية؟

هنا تظهر عدة إجابات، فلننظر إليها بعين فاحصة:

  1. من المجتمع؟
    المجتمع يعلّم، نعم، لكنه لا يخلق القيم. فلو كان المجتمع مصدر الأخلاق، لما تمردنا على أخلاقه الفاسدة أحيانًا.
    المسيح نفسه واجه مجتمعًا يحلل الظلم باسم الدين، وتمرد عليه لأن ضميره متصل بالحق الإلهي، لا بالثقافة السائدة.
  2. من العقل؟
    العقل يستطيع أن يُحلل ويُفكر، لكنه لا يُبدع القيم من عدم. العقل هو المصباح، لكنه ليس مصدر النور.
    حتى الفلاسفة الملحدون مثل كانط قالوا إن العقل لا يستطيع أن يخلق الأخلاق، بل يكتشفها كحقائق مفروضة عليه.
  3. من الشعور الداخلي أو الضمير؟
    الضمير مهم، لكنه ليس معصومًا. يمكن أن يُشوّه بالتربية أو الظروف. ما نحتاجه هو ضمير مُستنير، وميزان ثابت خارج الذات.
  4. من الله؟
    وهنا تأتي الإجابة المسيحية العميقة:
    الله ليس فقط واضع القيم، بل هو الخير ذاته.
    هو لا يأمر بالحق لأنه قرر ذلك، بل لأن طبيعته هي الحق. هو لا يقول “لا تقتل” لأن هذا قرار اعتباطي،
    بل لأن كل إنسان مخلوق على صورته، والله محبة.

رابعًا: الموقف المسيحي من موضوعية الأخلاق

في المسيحية، الأخلاق ليست قائمة على قوانين جامدة، بل على علاقة. الله يدعونا إلى أن نكون مثله في طبيعته الأخلاقية:

“كونوا قديسين كما أن أباكم الذي في السماوات هو قدوس” (متى 5:48)

وهذه القداسة تتجلى في المحبة، والحق، والعدل، والرحمة. ولهذا، فالمسيحية تقول بوضوح:
الأخلاق موضوعية لأنها متجذرة في طبيعة الله الذي لا يتغير.

ولذلك، عندما يرفض الإنسان هذه المرجعية، لا يضيع فقط البوصلة، بل يضيع معنى الحياة ذاتها.

خامسًا: ماذا يقول الفلاسفة المسيحيون؟

  • أوغسطينوس: رأى أن الشر ليس كيانًا مستقلًا، بل “غياب الخير”، وأن الإنسان لا يستطيع أن يكون صالحًا إلا إن رجع إلى مصدره، أي الله.
  • توما الأكويني: قال إن القوانين الأخلاقية جزء من “الناموس الطبيعي” الذي وضعه الله في الخليقة والعقل.
  • سي. إس. لويس: في كتابه Mere Christianity قال إن “قانون الطبيعة البشرية” يشير إلى مقياس أخلاقي عام في ضمير كل إنسان، وهو دليل على وجود خالق أخلاقي.

سادسًا: الشباب والنسبية الأخلاقية

عزيزي القارئ، إن كنت شابًا، فغالبًا سمعت عبارات مثل:

  • “مافيش صح وغلط مطلق”
  • “كل واحد حر في قِيمه”
  • “طالما ما أذيتش حد، يبقى أنا حر”

هذه العبارات جذابة لكنها خطيرة. لأنها تفتح الباب للفوضى الأخلاقية، ولانهيار المعنى.
فإذا لم يكن هناك خير وشر حقيقيان، فلماذا نُدين الظلم؟ ولماذا نُطالب بالعدالة؟

الإيمان بالله لا يُقيدك، بل يُحررك. لأنك لن تضطر أن تخترع معناك، بل تكتشفه في علاقة مع من خلقك على صورته.

خاتمة:

الأخلاق ليست رأيًا أو وجهة نظر. إنها صدى فينا لنداء الله.
حين نحب، نغفر، نُدافع عن الضعيف، نتمرد على الظلم… نحن لا نخترع الأخلاق، بل نستجيب لصوتٍ أقدم منّا، وأعلى منّا، وأصدق منّا.

نعم، الأخلاق موضوعية. نعم، مصدرها هو الله. نعم، الضمير يحتاج إلى وحي، والعقل إلى نور، والإنسان إلى مخلّص.

في المقال الثاني سوف نناقش سؤالا هاما لاستكمال رحلتنا في فلسفة الأخلاق وهو: هل يمكن للإنسان أن يكون جيدا بدون الله ؟

مصادر ومراجع:

  • Lewis, C. S. Mere Christianity. HarperOne, 2001
  • Augustine, City of God. Trans. Henry Bettenson, Penguin Classics
  • Aquinas, Summa Theologica
  • William Lane Craig, Reasonable Faith: Christian Truth and Apologetics, Crossway, 2008
  • الكتاب المقدس – العهدين القديم والجديد