في المقال السابق كنا نناقش سؤلاً هاماً وهو : هل يمكن للإنسان أن يكون جيدًا دون الإيمان بالله؟ في هذا المقال سوف نستكمل الناش في سؤال جديد داخل رحلتنا في فلسفة الأخلاق وهو:

ما الذي يجعل الفعل أخلاقي أو غير أخلاقي ؟

هل سبق وتساءلت:
“ليه بنعتبر الكذب غلط؟ أو الوفاء خير؟”
“هل الفعل الأخلاقي مجرد شعور داخلي؟ ولا قرار عقلاني؟ ولا أمر ديني؟”
قد يبدو الجواب بسيطًا، لكن الحقيقة أن هذا السؤال يقع في قلب كل فلسفة أخلاقية وكل ضمير بشري صادق.

ففي عالم يعيد تعريف “الخير” بحسب المزاج أو السياسة أو المصالح، نحتاج للعودة للسؤال الجذري:
ما الذي يجعل الفعل خيرًا في جوهره؟

أولاً: الأخلاق ليست في الفعل فقط… بل في “النية والغاية والطبيعة”

لنأخذ مثالًا بسيطًا:
لو شخص أعطى فقيرًا مالًا، هل هذا فعل أخلاقي؟
قد يبدو كذلك… لكن ماذا لو أعطاه المال لكي يُصوّره وينشره على الإنترنت؟ أو لكي يشعر بتفوقه؟
هنا نكتشف أن النية جزء أساسي من الأخلاق.
لكن النية وحدها لا تكفي، لأن الإنسان قد ينوي خيرًا ويفعل شرًا (بسبب جهل أو غرور).
إذًا، نحتاج لمعيار أعمق من النية: نحتاج إلى مرجعية خارجية تقول لنا ما هو الخير نفسه.

ثانيًا: المدارس الفلسفية في تحديد ما يجعل الفعل أخلاقيًا

1. النفعية (Utilitarianism)

وتقول: الفعل الأخلاقي هو ما يحقق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس.
لكن المشكلة هنا أن هذا المعيار يجعل القيمة الأخلاقية تعتمد فقط على النتائج، وليس على الفعل ذاته أو الدوافع.

مثال: لو كذبت على مجتمع بالكامل وجعلتهم سعداء، هل أصبح الكذب فجأة “أخلاقيًا”؟
الفلسفة المسيحية ترفض هذا المنطق.
لأنها تؤمن أن الكذب يظل كذبًا حتى لو أضحك الناس، وأن الحقيقة خير حتى لو أوجعتنا.

2. الواجب الأخلاقي (Deontology – كانط)

كانط قال: الفعل أخلاقي إذا تم بدافع احترام الواجب، لا بدافع المنفعة.
هذا الكلام عظيم في ظاهره. لكنه يفترض أن الإنسان يستطيع وحده أن يحدد ما هو “الواجب”، دون الرجوع إلى مرجعية أسمى.
والسؤال يبقى قائمًا: من الذي وضع الواجب من الأساس؟ ولماذا نلتزم به؟

3. النسبية الأخلاقية (Relativism)

وتقول: لا يوجد فعل خير أو شر بذاته، بل حسب السياق والثقافة.
لكن لو صدّقنا هذا الكلام، لن نستطيع أن نحكم على أي جريمة أو ظلم.
وإن قلنا إن القتل “خاطئ فقط لأنه مخالف للقانون”، فماذا لو غيّرنا القانون؟
الفعل الأخلاقي لا يُكتسب أخلاقيته من القانون، بل القانون يجب أن يُقاس بالأخلاق.

ثالثًا: الموقف المسيحي – الأخلاق متجذرة في طبيعة الله

في المسيحية، الفعل الأخلاقي هو ما يتفق مع طبيعة الله وصفاته:

  • المحبة

  • الحق

  • القداسة

  • العدل

  • الرحمة

نحن لا نُطيع القوانين لأننا نخاف العقوبة، بل لأننا نحب الله، ونرغب أن نصير مثله.

“كونوا قديسين كما أن أباكم الذي في السماوات هو قدوس” (متى 5:48)

فالمعيار الأخلاقي إذًا ليس قاعدة، بل علاقة.

رابعًا: ثلاثة عناصر تميّز الفعل الأخلاقي المسيحي

1. النية

النية الطاهرة لا تعني الكمال، لكنها تعني القلب المُحب، المُشتاق إلى فعل مشيئة الله.

“الله ينظر إلى القلب” (1 صموئيل 16:7)

2. الغاية

الغاية ليست تبريرًا للوسيلة. في المسيحية، الوسيلة يجب أن تكون مقدسة كالغاية.
لا يجوز أن تسرق من أجل أن تطعم فقيرًا.

“لا تصنع الشر لكي يأتي الخير” (رومية 3:8)

3. مطابقة الفعل لطبيعة الله

أي فعل لا يعكس محبة الله وعدله هو فعل ضد طبيعته، حتى لو بدا “مفيدًا”.
لهذا نرفض القتل، والخيانة، والظلم، والكبرياء، والكذب… حتى لو بُرّرَت سياسيًا أو اجتماعيًا.

خامسًا: هل يكفي أن يكون الفعل “صادقًا من الداخل”؟

الصدق الداخلي لا يُغني عن الحق الموضوعي.
مثلاً: شخص يُحب الله جدًا، لكنه يقتل الأبرياء باسم هذا الحب.
هنا نجد مأساة الانفصال بين العاطفة والحق.

النية وحدها لا تبرر الفعل، ما لم يكن الفعل موافقًا لطبيعة الله.

سادسًا: حين تنفصل الأخلاق عن الله… يحدث الانهيار

عندما نحاول تأسيس الأخلاق خارج الله، نواجه عدة مشاكل:

  1. نبرر كل شيء بحسب النتائج أو العواطف.

  2. نُفقد الفعل معناه الأعمق.
    مثال: التضحية تصبح مجرد بطولة بشرية، لا تجسيدًا للمحبة الإلهية.

  3. نضيع في دوّامة من التناقضات.
    فنُدين القتل في حادث معين، ونتغاضى عنه في ظروف أخرى، بحسب أهوائنا.

سابعًا: ماذا عن الأفعال الرمادية أو المعضلات؟

الكتاب المقدس لا يقدم لنا “كتالوجًا جاهزًا” لكل موقف، بل يُعطينا روح الوصية، أي المبادئ الأخلاقية التي تنبع من طبيعة الله.

أمثلة:

  • بدلًا من أن يُحدّد ما إذا كان الكذب مسموحًا في موقف معين، يُعلّمنا أن نكون صادقين، شجعان، وناطقين بالحق بمحبة.

  • بدلًا من أن يُفصل كل سيناريو، يدعونا لنُصغي لصوت الروح القدس في ضميرنا المتجدد.

ثامنًا: المسيح كالمثال الكامل

المسيح لم يأتِ فقط ليعلّم الأخلاق، بل ليكون هو نموذج الأخلاق الحقيقية.

  • لم يكذب حتى تحت التهديد.

  • لم ينتقم وهو يُصلب.

  • لم يستخدم قوته لأجل ذاته.

  • لم يُجامل على حساب الحق.

  • عاش لأجل الآخرين، ومات عن الخطاة.

فالمسيحية لا تقدم قواعد فقط، بل تقدم شخصًا: المسيح، المثال، والمصدر، والمخلّص.

 

رسالة إلى اصدقائي المتشككين

قد تقول: “أنا لا أؤمن، لكنني أحب وأحترم وأساعد”. وأنا أقول لك: رائع، هذا دليل على أن صورتك الإلهية لم تُمحَ، بل لا تزال تتألق فيك رغم الشكوك. لكني أدعوك أن تفكر في هذا السؤال: لماذا تتصرف كما لو أن هناك معيارًا للخير؟ ومن أين أتى هذا النور الذي في داخلك؟

ليس الهدف من الإيمان هو تقييدك، بل أن يمنحك إطارًا ترى به الحياة والمعنى بوضوح.

خاتمة:

نعم، قد يتصرف الإنسان أخلاقيًا دون أن يؤمن بالله. لكن دون الله، تبقى الأخلاق معومة، بلا جذر، بلا مرجعية نهائية.

الله ليس منافسًا للضمير، بل منبع الضمير. ليس خصمًا للعقل، بل مصدر نوره. ومعرفته لا تُقلل من إنسانيتك، بل تُعيدها إلى بهائها الأصلي.

سوف نستكمل رحلتنا في المقال الرابع عن سؤال : هل الإنسان أخلاقي بطبيعته أم أن الأخلاق مكتسبة؟

مصادر ومراجع:

  1. Thomas Aquinas, Summa Theologica

  2. Immanuel Kant, Groundwork of the Metaphysics of Morals

  3. William Lane Craig, On Guard: Defending Your Faith with Reason and Precision

  4. C.S. Lewis, The Problem of Pain

  5. الكتاب المقدس بعهديه